[ الرَّد على المجموعة الثانية من الشُّبهات ] ⇐ توضيح الفرق بين العقيدة والشريعة ، ومن هو أول المسلمين ، وهل شكّ النبي في الوحي ، وهل شعَر بأنه مجنون ، وهل حاول الإنتحار ، وهل أَذنَب ، وهل أخذ القرأن من ورَقة بن نَوفل ، وهل نزل الوحي بجوار السيدة خديجة ؟
* العقيدة هي الإيمان بوجود الله الواحد الأحد ، والشريعة هي طريقة عبادة الله كالصلاة والصيام .
– عقيدة جميع الأنبياء واحدة وهي الإسلام لله ، يعني الإنسان يُسَلِّم نَفْسه لله ويُعلِن الخضوع الكامل لله وحده ، مثل قول سيدنا يوسف ( تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) ، والقرأن يقول أيضاً ( وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) وكلمة ( أَوَّلَ ) هنا لا تفيد بالضرورة الترتيب الزمني ، بل هي كناية عن قوة التصديق والإيمان ، مثل قول الجُندي ( أنا أول المؤيدين للسلطان ) يعني يُؤيد السلطان بِشِدّة ومستعد أن يفديه بِروحه ، ولا يعني أنه أول شخص أيّد السلطان .
وأبو بكر الصديق هو أول رجل أسلم بعد بعثة النبي ، وليس أول المسلمين في الكون .
و كُل رسول له شريعة خاصة به ، مثل شريعة اليهود وشريعة النصاري ، وقد يحدث تَشابه في شريعة رسول مع رسول آخَر ( صوم يوم عاشوراء موجود في شريعة سيدنا موسى وشريعة سيدنا محمد ،، والطواف بين الصفا والمروة موجود في شريعة سيدنا إبراهيم وشريعة سيدنا محمد ) ، وقد حدث تحريف للشرائع السابقة ، لذلك أخَذ الإسلام منهم بعض الأشياء الغير مُحرّفة ، وترَك الباقي .
وشريعة كل رسول تكون خاصة بقومه فقط ، لكن شريعة سيدنا محمد هي عامة لكل الناس ، وناسخة لِما قبلها ، يعني ألغَت واستبدلت كل الشرائع السابقة ، ولن يأتي بعدها أي شريعة إلى يوم القيامة ،، انظر ⇐ [ الرّد على شُبهة تحريف القرأن ، واختلاف القراءات ، والناسخ والمنسوخ ، وحرق المصاحف ، وأكْل الداجن لصُحف القرأن ]
– قبل ظهور الإسلام كان هناك بعض الأشخاص الذين تَوصَّلوا بعقولهم إلى العقيدة السليمة وآمَنوا بوجود إله واحد خالق لهذا الكون ، وكانوا فقط ينتظرون ظهور أي نبي لِكَي يُخبرهم بالشريعة التي تُناسب زمانهم ، ومنهم السيدة خديجة ، وأيضاً ورقة بن نوفل الذي كان يعبد الله بشريعة سيدنا عيسى إلى أن يبعث الله نبياً آخَر فيتّبع شريعته ، وكان ورقة يؤمن أن عيسى هو نبي الله وليس ابن الله ،، انظر ⇐ [ الرّد على شُبهة أهل الفترة والأشخاص الذين لم يَسمعوا عن الإسلام ، وإثبات أن النبي محمد هو مِن أُصول مؤْمنة ]
– سيدنا محمد قبل نزول الوحي كان بالفعل يؤمن بوجود إله عظيم يستحق العبادة ، وكان يتمنى أن يجد طريقة عبادة لِكَي يعبد الله بها ، لذلك كان يُقِيم في غار حِراء يتعبّد بالتفكير والتدبّر في عظَمة إله الكون إلى أن يجد ضالّته ، وفعلاً هداه الله إلى تلك الشريعة ، والقرأن يقول ( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ ) ،، وسيدنا محمد لم يعرف تلك الشريعة مِن نبي آخَر ، بل وقَع الإختيار عليه هو شخصياً وأَنْبَأه الله بتلك الشريعة فأصبَح نبي ، وأرسَله الله بتلك الشريعة إلى الناس فأصبَح رسول .
– وعندما رأى النبي الملاك جبريل لأول مرة كانت هذه الرؤية ثقيلة جداً عليه وأجهَدَته كثيراً ، لأن جبريل حضَن النبي بِشِدّة كدِلالة على الحب والمودة مثل الشخص الذي يُسَلّم عليك ويضغط على يدك بشدة .
والملاك شكله جميل ولكن مَهيب في نفس الوقت ، ولو رآه شخص عادي فسوف يموت هذا الشخص بالسكتة القلبية ، ولذلك في رحلة الإسراء والمعراج أَعطَى الله للنبي قُدرات خاصة تفُوق قُدرات جبريل نَفسه ،،
وأيضاً فرحة النبي باختيار الله له بالذات كانت ثقيلة جداً عليه ، لأنه أكثر شخص يعرف عظَمة الله ، وبالتالي يعرف عظَمة نعمة الله عليه ، فلم يتحمل كل هذه الفرحة ورؤية الملاك ، لذلك ذهب النبي إلى زوجته خديجة وأخبرَها بما رآه ، وقال لها أنه مندهش ويخشى أن يكون أصابته تهيئات ، ولِسان حاله يقول ( هل هذا حقيقي ! ! هل أنا فعلاً رأيت ملاك ! ! هل الإله العظيم اختارني أنا بالذات وأعطاني هذه المكانة ! ! هذه نعمة كبيرة جداً جداً ، هل أنا أستحق هذه النعمة العظيمة ، أنا لا أكاد أُصدّق عَيني ! ! ) ،،
وسأذكر مثال للتوضيح : لو أخبروا الأم أن ابنها كان في الطائرة التي سقطت في البحر ، وأنهم لم يعثروا عليه بعد البحث الطويل ، وظنت الأم أن ابنها قد مات ، وبعد فترة اكتشفوا أنه على قيد الحياة ، وجاءها ابنها ورأته بعينيها ، فسوف تفرح بشدة لدرجة الإندهاش وتقول : ( هل أنت فعلاً ابني الحقيقي أَم شبح ! ! هل أنت فعلاً أَمامي أَم هذه تهيئات ! ! أنا لا أُصدق أنك رجعت لي مرة ثانية ! ! ) فليس معنى ذلك أنها لا تُصدق وجود ابنها ، بالعكس ، فهي صدّقَت ولذلك اندهشَت ،، ولو كانت فعلاً لا تُصدّق .. لَمَا اندهشَت أصلاً ،، ولِكَي تُعبّر عن الدهشة قالت ( لا أُصدّق ) يعني كلمة ( لا أصدق عيني ) هى تعبير عن الدهشة وليس عن التكذيب .
وأيضاً الناس الذين حوْلها مِن فرحتهم يقولون لها ( لو مازِلتي مستغربة فيمكنك أن تَلْمسي يده بيدك ) فهُم متأكدون أنه ابنها ومع ذلك يذكرون لها الأدلة المنطقية التي تُثبت أن هذا هو ابنها فعلاً بهدف إزالة الدهشة والإستغراب عنها ، وليس بهدف إزالة التكذيب ، لأنه لا يوجد تكذيب أصلاً ، يعني مثلاً ينصحوها بأن تسأل ابنها عن آخِر حِوار دار بينهما ، وعندما يذكر الإبن نَص الحوار بالضبط ، يقولون لها هذا دليل آخَر .
– والسيدة خديجة كانت متأكدة أن النبي رأى ملاك وليس شيطان ، بدليل أنها أَجلَسَت النبي في حِجرها وبدأَت تكشِف شَعرها عندما أخبرَها النبي أن جبريل حضَر ، لأنها متأكدة أن جبريل عنده حَياء وسينصرف حتى لا يرى شعرها المكشوف ، وفعلاً انصرَف جبريل ، ولو كانت تظن أنه شيطان .. لَمَا كشفَت شَعرها أصلاً ، لأن الشيطان ليس عنده حياء ، وهي قصدَت إثبات أنه ملاك ، لإزالة الدهشة عن النبي وليس إزالة التكذيب ، لأنه لا يوجد تكذيب أصلاً ،، وهذه الرواية ضعيفة ، ولكن لو صحّت فهي تدل على فِطنة وذكاء السيدة خديجة .
– والسيدة خديجة أرادت أن تُهدّيء من رَوْع النبي وتُزيل دهْشته ، وأخبرَته أنه بالفعل يؤمن بالله ويفعل الخير مع الناس ويساعد المحتاج ، وبالتالي ليس غريباً أن يكافأه الله على ذلك ،، والنبي مَهْما فعَل مِن الخير والطاعة فقد كان يشعر دائماً أن نِعم الله عليه أكبر مِن تلك الطاعة ، وأن الله يستحق عبادة أكثر وأكثر ، ولذلك كان النبي يُصلي الصلوات المفروضة ، ولا يكتفي بذلك بل يُصلي قيام الليل حتى تورّمَت قَدَماه الشريفتان ، ومع ذلك أراد أن يستمر في الصلاة ، ولكن لابد أن ينام الإنسان فترة في اليوم ، لذلك كان يستغفر الله لأنه كان يتمنى أن يعيش طول عمره ساجداً لله بدون أن يرفع جَبهَته من السجود أبداً ولا يأكل ولا ينام ،، فأخبَره الله أن هذا لا يُعتبر تقصيراً منه في العبادة ، لأن هذا الشعور بعظمة الله هو في حد ذاته عبادة .
والتقصير هو ذَنْب ، لكن الشعور بالتقصير بعد عمل الطاعة هو عبادة ، وبذلك أصبحَت عبادة النبي لله كاملة بهذا الشعور ، يعني النبي هو المخلوق الوحيد الذى عبَدَ الله حق عبادته .
– وكان النبي يُتعِب نَفْسه في تبليغ الرسالة ، ولَمّا استمَرّ بعض الناس على كُفرهم كاد النبي أن يموت مِن الحزن ، مَخافة أن يكون قصّر في التبليغ ، فأراد الله أن يُخفف عنه الحزن وقال له ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ، ويقول ( لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) والله يعلم أن النبي لم ولن يُذنب ، لكن قال له ذلك حتى يطمئن ولا يخشى مِن التقصير ، فهو يؤدي مهمته بالفعل على أكمل وجه ،، مثل الإبن الذي يُذاكِر طول الليل وتَحمرّ عيناه من السهر ، فيُشفق عليه أبوه ويقول له ( يا بُني كفَى مذاكرة ، وحتى لو حدث منك تقصير فأنا مسامحك ، المهم أن ترتاح قليلاً ) فالأب قال ذلك لأنه متأكد أن ابنه لا يقصّر أبداً في المذاكرة ، وهذا الأب يحب الإبن أكثر من حُب الإبن لنفسه ،، انظر ⇐ [ الرّد على شُبهة مَعصية سيدنا أدم ، وعِصمة الأنبياء من الذنوب ، وزواج أولاد حوّاء من أخواتهم ]
– السيدة خديجة أخذَت النبي إلى ورقة بن نوفل لِكَي يساعده أكثر على تَحمُّل خبر الوحي والنبوة ، وفعلاً قال ورقة أن هذا الملاك حقيقي وهو نفس الملاك الذي ظهر لسيدنا موسى من قبل ، وأن سيدنا عيسى بَشَّر بالنبي محمد ، وتَمنّى ورقة أن يعيش أكثر لِكَي يدافع عن النبي ، لكن ورقة مات بعد فترة قصيرة .
– وعدم تَحمُّل النبي لهذه النعمة لا يدل على نقْص في النبي ، بل يدل على تقديره لهذه النعمة و واهِب هذه النعمة ، ويدل على اعترافه بالفضل لِواهب النعمة وهو الله سبحانه وتعالى .
وليس عيباً أن يعترف النبي بضَعف قوّته أَمام عظمة الله ، بل هذا دليل على كمال العبودية والعبادة لله وحده .
– وكان النبي يَشعُر بالفرحة وأيضاً بالجهد والتعب عندما يرى جبريل ، فأراد الله أن يُنسّيه التعب ، وتبقَى الفرحة فقط ، لذلك تَأخّر ظهور جبريل لفترة من الزمن ، فحزن النبى حزنا شديداً ، وتمنى رؤية جبريل مرة أُخرى ، ناسياً ذلك التعب السابق .
وفعلاً عندما ظهر جبريل بعد ذلك ، فرِح النبي فرحاً شديداً ولم يشعر بأي جهد أو تعَب ، وقال له جبريل أن هذا كان مجرد تأخير لمصلحته وليس توديع من الله ، لأن الله لا يُوَدّع أنبياءه ، وهو فعلاً أحد هؤلاء الأنبياء ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) ولن يحدث تأخير بعد ذلك ( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ ) فاطمأَن النبي وهدَأت نَفسه .
– وبعض الأغبياء يزعمون أن النبي كان يأخذ القرأن مِن شيطان وليس مِن ملاك ،، مع أن الشيطان لا يقول ( الله واحد أحد ) بل يقول ( الله ثالث ثلاثة ) وغيرها من أقوال الكُفر .
– وأيضاً يزعمون أن النبي كان يأخذ القرأن مِن ورقة بن نوفل ، ولو حدث ذلك لانقطَع القرأن نهائياً بعد موت ورقة ، بينما استمَرّ نزول القرأن بعد موت ورقة .
– وأيضاً يزعمون أن النبي كان يخترع القرأن من نفسه ، ولو صحّ ذلك .. لَمَا حدث تأخير أصلاً في نزول القرأن .
– لذلك تتبقى الحقيقة ، وهي أن النبي أخَذ القرأن مِن الله ، و الله هو المتحكم في توقيت نزول الآيات .
– و روَى البخاري حديث نزول الوحي في أكثر مِن رواية صحيحة ، ولكن هناك رواية صحيحة واحدة فقط أضاف عليها البخاري جُزء في نهايتها لِيُخبرنا أن هذا الجزء غير صحيح لأنه خالي مِن السنَد ، وهذا الجزء يقول أن النبي حاوَل الترَدِّى مِن فوق الجبل بعد تأخُّر الوحي ، يعني البخاري فصَل بين الرواية الصحيحة وبين الإضافة غير الصحيحة لِيُحذّرنا ، لكن مع ذلك يظن البعض أنها صحيحة طالما مكتوبة في البخاري ، والبخاري نَفسه لا يَرى أنها صحيحة .
– وحتى لو افترضنا أن هذا الجزء المضاف صحيح ، فهو لا يعني أن النبي حاول الإنتحار ،، لأن مَن ذاق لَذّة الوَصل مع الله لا يمكن أن يتحمل تأخيرها ، فهذا التأخير هو في حد ذاته موتٌ حتى لو لم تَخرج الروح من الجسد ، ولذلك عندما حدث تأخير لهذا الوصل ، لم يتحمل النبي هذا التأخير ، وشعَر بأنه ليس من الأحياء ، وبدأ يحزن ويَنُوح على حاله .
وعندما يَنُوح الإنسان لفقدان الوصل مع شخص عزيز ، فإنه يقوم بالبكاء وعدم الأكل والشرب ولا يفكر بِصِحّته ، ولا يجُوز النّواح بسبب فقدان المخلوق ، لكن النبي يَنُوح على فقدان الوصل مع الله ، لذلك فعَل ما هو أصعب وكاد أن يتردّى من فوق الجبل ، يعنى التّرَدِّي من الجبل في هذه الحالة هو نُواح ، وليس انتحار ولا قتْلٌ للنفْس ولا إنهاء للحياة ، لأن النبي في هذه اللحظة لم يشعر بأن عنده حياة أصلاً لِكَي يحتاج أن يُنهيها .
– وإذا فقد الشخص الوصل مع المخلوق فلا يحق له أن يشعر بفقدان الحياة ، بل يجب أن يؤمن أن الله قادر على تعويض كل خسارته .
لكن لو فقد الشخص الوصل مع الله ، فمن سيعوّضه ؟ ! ولذلك إذا لم يشعر هذا الشخص بفقدان الحياة في هذه الحالة ، فمعنى ذلك أنه لا يُبالِي بهذه الخسارة ، وهذا يُعتبر كُفر بالله .
– يعني التّردّى من الجبل بسبب فقدان المخلوق هو انتحار وقتْلٌ للنفْس ، وهذا حرام ، لأن النبي يقول ( مَن تَرَدَّى مِن جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَهو في نَارِ جَهَنَّمَ ) .
– وإذا أَسرَف الإنسان في المعاصي ، فهذا يعني أن الله غاضب عليه ، لكن لا يعني انقطاع الوصل مع الله ، لذلك يجب عليه أن يستغل الوقت ويتوب إلى الله ، ولا ينتحر لأن هذا يدل على اليأس من رحمة الله وهذا كُفر بالله ، والعياذ بالله .
( * ملحوظة : قد يتم كتابة كلام إضافي للمقالة قريباً لزيادة الشرح أكثر )