[ الرَّد على المجموعة الأولى من الشُّبهات ] ⇐ الرّد على الأشخاص الذين يهملون جزء من كلام النبي ويزعمون أنهم يعرفون معنى كلام النبي أكثر من النبي نفسه :
* اللفظ الواحد فى اللغة العربية يَحتمِل أكثر من معنى ، ولِكَي نعرف المعنى الذي يقصده المتكلم بالضبط فلابد أن نعرف سياق الكلام بالكامل ، بدون النظر إلى جملة واحدة فقط وترك باقي الكلام ، لأن ذلك يؤدي إلى سوء الفهم .
* مثال من عندي : ( قال الزوج لزوجته أَرضِعِي الطفل لأنه جائع ) لو نظرنا لهذه الجملة فقط فسنفْهم منها أن هذا الطفل هو ابن الزوجة وسوف تقوم بإرضاعه من ثديها مباشرة .
لكن هذه الجملة تحتمل أيضاً معنى أخر ، وهو أن هذا الطفل ليس ابن الزوجة ، بل أخذَته مِن مَلجأ لِكَي تُرَبِّيه بعدما ماتت أُمّه وأصبح يتيم ،، والزوجة تُرضِعه مِن زجاجة اللبن ، أو عن طريق ثدي أختها المُرضِعة التي ولدت حديثاً ، يعني هذا الطفل يُصبح ابن أخت الزوجة من الرضاعة ، وبالتالي يصبح من مَحارمها .
إِذَن يجب أن نعرف جميع كلام ومواقف وظروف الشخص قبل تحديد معنى جملة واحدة من كلامه .
– وأحياناً يقوم أحد الصحابة بالتحدث إلى الناس فى موضوع مُعَيّن ، ويَستشهد بجملة واحدة من كلام النبي بطريقة مُناسبة لِكَي يُثبت وجهة نظره في الموضوع الذى يُحدّث الناس فيه ،، وبالتالي يحفظ الناس جملة النبي ويفهمون المعني المقصود منها بشكل صحيح ،، ولكن بعد وفاة الصحابي وبمرور الوقت يتم نقل هذه الجملة بدون ذِكر سياق الكلام والموقف الذي قِيلت فيه هذه الجملة ،، وبالتالي يَحدُث سوء فهم عند الناس ،، وساعتها لا يكون العيب في الصحابي ، ولا في الشخص الذي نقل الجملة ، بل يكون العيب في الشخص الذي يَبنِي فتوى على جملة واحدة من كلام النبي .
لذلك فإن الفقهاء لا يُصدرون فتوى بناءاً على حديث واحد ، لأن هذا الحديث قد يُمثّل فقط جزء من كلام النبي ، ولذلك يقوم الفقهاء بتجميع كل الأحاديث المَروِيّة عن النبي حتى يستطيعوا معرفة المعنى المقصود بالضبط .
وإذا حاول فقيه إصدار فتوى مُعيّنة وغاب عنه حديث مُعيّن فسوف يُخطيء في الإجتهاد ، وفي هذه الحالة يقوم باقي الفقهاء بتعديل هذه الفتوى حتى لا يَحدُث تحريف للشريعة .
وهذا لا يُقلّل من عِلْم الفقيه ، لكن يَدُل على تعاوُن جميع الفقهاء في الوصول إلى تعليمات النبي بشكل صحيح وكامل .
* مثال : لو أننا سمعنا شخصاً يقول ( الشمس ليست حِكْراً على أحد ، بل يراها كل الناس ) فإننا لن نتّهِمه بأنه كاذب ، مع أنه لم يَستَثنِي العميان في هذه الجملة ، لأننا بالفعل نَعلم هذا المُستثنَى ، وهذا الشخص المتكلم يُدرك أننا نعلم هذا المُستثنَى وبالتالي لا داعِي لِذِكره في الجملة .
وبالقياس على هذا المثال ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال ( كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ ) مع أن الأنبياء هُم من بَنِي آدم ومَعصُومون مِن الخطأ ، والنبي يُدرك أننا نعرف معلومة عِصمة الأنبياء ، لذلك لا داعي لِتكرار هذه المعلومة في كُل جملة ،، ولذلك فإن الفقهاء يُفرّقون بين المصطلح العام المُطلَق ، والعام الذي يُراد به الخاص .
* مثال : يقول الله للكافر يوم القيامة ( ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) وهذه آية مستقِلّة في سورة الدخان .
ولو نظرنا لهذه الأية وحدها فقط فسوف نظن أن الله يَمدَح الكافر ويجعله يذوق النعيم فى الأخرة ،، لكن لو نظرنا إلى بقية الآيات فسوف نُدرِك أن هذه الآية هي كِناية عن السخرية والإستهزاء بالكافر الذي يَتعذّب في النار نتيجة سُخريته من المؤمنين في الدنيا .
لذلك لا يَصحّ أن تُصدر حُكم بناءاً على آية واحدة بدون أن تَأخُذ بقية الآيات في الإعتبار .
* مثال : الله يقول عن الكفار ( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) ،، و ( بَلْ ) هي حرف إضراب لِما قبلها وإثبات لِما بعدها ،، يعني تنفِي الكلام السابق وتُثْبت الكلام اللاحق ،، ولو قُمنا بتفسير الكلام السابق لِوَحدِه ، وتفسير الكلام اللاحق لوَحده فسوف نظن أن القرأن في البداية قال أن الكافر يَتساوَى مع الأنعام ، ثم بعد ذلك نفَى ذلك التساوِي وقال أن الكافر يزيد في الضلال عن الأنعام ،، وبالتالي نظن أن القرأن قال خبر غير صحيح ثم نَفاه وقال بعده الخبر الصحيح ،، لكن القرأن مستحيل يقول خبر غير صحيح ،، لذلك لا يَصِحّ أن نُفسّر الكلام السابق بِمَعزِل عن الكلام اللاحق ،، بل يجب أن نُفسّر الكلام السابق واللاحق باعتبار أنهما مصطلح واحد بدون تقسيم ،، وهذا المصطلح هو كِناية ،، يعني جملة ( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) هي كلّها على بعضها كِناية عن شِدّة ضلال الكفار ،، وذلك كما تقول الأم لابنها ( غُرفتك مثل الزّريبة ، بل أسوَءْ ) وهذه الجملة التي بين القوْسين كلّها على بعضها هي كِناية عن شِدّة قذارة الغرفة .
ونُلاحظ أن السلفيين يُفسّرون القرأن بالمعنى الحرفِي ويرفضون الكِناية ،، وهم بذلك يُفسّرون القرأن بطريقة خاطئة ويقولون بالتجسيم في حق الله ويُخالفون السلَف الصالح .
* مثال : قال النبي ( إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ : فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّار ) ،، لو نظرنا إلى هذا الحديث فقط فَسَنَعتبِر أن جميع النساء شُؤْم ، لكن لا يصح أن نُحدِّد ( نحن ) المعنى المقصود من هذه الجملة ، بل يجب أن يقوم ( المتكلم ) نفسه بتحديد المعنى المقصود من كلامه ، وفعلاً هناك حديث أخر يوضِّح معنى هذا الحديث ، فقد قال النبي أيضاً ( مِنْ سعادَةِ ابنِ آدمَ ثلاثَةٌ ، ومِنْ شِقْوَةِ ابنِ آدَمَ ثلاثةٌ ، مِنْ سعادَةِ ابنِ آدَمَ : المرأةُ الصالحةُ والمسْكَنُ الصالحُ والمركبُ الصالحُ ،، ومن شِقْوَةِ ابنِ آدَمَ : المرأةُ السوءُ والمسكنُ السوءُ والمركبُ السوءُ ) معنى ذلك أن الشُّؤْم إذا حدَث فإنه يحدُث بسبب بعض الأشياء ومن ضِمنها المرأة ، معنى ذلك أنه قد يحدُث شؤم وقد لا يحدُث ، معنى ذلك أنه قد توجد امرأة ولكن بدون حدوث شؤم ،، والدليل أنه تم مدحُ نساء مَذكورات بالإسم في القرأن والأحاديث ، معنى ذلك أن أحاديث النبي يُفسّر بعضُها بعضاً ، ولا يُناقض بعضها بعضاً .
وهنا سؤال يطرح نفسه : لماذا لم يوضح النبي المعنى المقصود في حديث واحد كامل ؟
والجواب هو أن النبي بالفعل عندما يَخطب في الناس كان يوضح معنى كلامه بالتفصيل .
وهنا سؤال أخر : لماذا يقوم راوِي الحديث بِذِكر جزء فقط من كلام النبي بدون ذِكْر جميع الكلام ؟
والجواب هو أنه لو اشترطنا على كل صحابي أن يَذكُر جميع كلام النبي بالنَّص .. لَمَا أخبرونا بأيّ حديث ، لأن الناس يختلفون في المقدرة على الحفظ ، لذلك يقوم كل شخص برواية الجزء الذي حفظه فقط ، وعندما ينسَى الصحابي لفظ مُعيّن في الحديث .. كان يَستبدله بلفظ أخر مشابه في المعنى ، ولذلك فهناك بعض الأحاديث تم روايتها بالمعنى وليس باللفظ ، وهذا يُفسّر وجود كذا صيغة مختلفة لنفس الحديث ، وهذا لا يُعتبر كذِب من الصحابي طالما لم يَتعمّد تغيير المعنى ، لأنه لم يُغيِّر المعنى أصلاً ،، وهذا أيضاً لا يعتبر نقْص في الشريعة الإسلامية ، لأننا لا نحتاج تلاوة الأحاديث في الصلاة ، بِعكْس القرأن ، ولذلك فإن القرأن وصلَنا بالسّماع المتواتر بنفس الألفاظ التي نطَقها جبريل ، وحتى عندما كان جبريل يقرأ نفس الآية بطرُق مختلفة ، فهذه الطرُق وصلَتنا أيضاً كما نطقها جبريل بالضبط .
يعني لو أنا أخبرتك أن النبي قال ( ساعِدُوا المساكين ) فأنا لا أكُون كاذباً مع أنه لا يوجد دليل على أن النبي قال ( ساعِدُوا المساكين ) بنفس هذه الألفاظ ، لكن النبي أمَرَنا فعلاً بمساعدة المساكين ، وأنا أَروِي معنى كلام النبي بطريقة صحيحة ، وبالتالي لا يُعتبر ذلك افتراءاً على النبي .
والقرأن هو كلام الله ، لكن الحديث النبوى هو كلام النبي بِإذْن من الله ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ) ، ولذلك فإن ألفاظ القرأن توْقيفيّة ، يعني لا يجُوز استبدال لفظ بلفظ أخر عند قراءة القرأن ، لكن يجُوز ذلك عند تفسير القرأن .
وأمّا الحديث القدسي فهو كلام الله لكن الله سمح للنبي أن يُعبّر عن ذلك بألفاظ من عنده ، يعني المعنى حَدّده الله والنبي اختار اللفظ .
و الله تَكفّل بِحفظ ألفاظ القرأن ، أما السُّنّة النّبوية فإن الله تكفل بحفظ معانيها ومضمونها لأن ذلك ضروري لحفظ تعليمات القرأن نفسه ، لكن لم يَتكفّل بحفظ ألفاظ السّنّة ، وهذا لا يُعتبر نقْص في السّنّة طالما مضمونها موجود بالكامل .
– لذلك لو أَصدرنا فتوى بناءاً على جملة واحدة مِن كلام النبي وأَهملْنا باقي كلامه فسوف تكُون الشريعة ناقصة ، ولكن عندما نجمع كل الأحاديث الصحيحة مع بعضها .. يُصبح لَدَينا صورة كاملة من أقوال وأفعال النبي ،، وبالتالي يُصبح لَدَينا شريعة كاملة وصحيحة وغير مُحرَّفة .
– انظر أيضاً مقالة [ الرّد على شُبهة مَعصية سيدنا أدم ، وعِصمة الأنبياء من الذنوب ، وزواج أولاد حوّاء من أخواتهم ]
* ( ملحوظة : قد يتم كتابة كلام إضافي إلى المقالة قريباً لزيادة الشرح أكثر )