[ الرَّد على المجموعة الأولى من الشُّبهات ] ⇐ الرّد على شُبهة ( الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، ولِلْعَاهِرِ الحَجَرُ ) وشُبهة سماح المذهب الشافعي بزواج الأب من ابنته من الزّنا :
* هناك بعض الأشخاص يَظنون أن النبي يُلزِم الزوج بقبول زِنا الزوجة لأن النبي قال ( الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، ولِلْعَاهِرِ الحَجَرُ ) ، لذلك سوف أَذكُر الدليل بأن هؤلاء الأشخاص يُفسّرون كلام النبي بطريقة خاطئة ، لأن النبي لا يُلزِم الزوج بقبول زِنا الزوجة ،، وسوف أَذكُر الدليل على أن الإمام الشافعي عندما سمح بزواج الأب من بنته من الزّنا فهو يقصد الزواج على الورق فقط ، ولا يقصد المُعاشرة الزوجية .
* في البداية يجب أن أوَضح معاني بعض الكلمات :
– الأَمَة : هي الجارية ، وأحياناً يسمونها ( الوليدة ) ، يعني ( وليدة فُلان ) هي جاريته وليست بنته .
– الحُرّة : هي المَرأة التي ليست من الجواري .
– المَحارِم : جمع مَحرم ، وهو الشخص الذي يَحرُم على المرأة ، يعني أخوها وأبوها مِن مَحارِمها .
– الأجنبي : هو الشخص الذي ليس مِن مَحارم المرأة ، يعني ابن عمها هو أجنبي عنها .
– السيدة ( سَوْدة بنتَ زَمْعة ) هي إحدى زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم ،، وهناك حديث صحيح في البخاري يقول أنه في فترة الجاهلية كان ( زَمْعة ) والد ( سَوْدَة ) عنده جارية ، وقام شخص اسمه ( عُتْبَة بن أبِي وقَّاص ) بمُعاشرة هذه الجارية ، يعني زَنا بها ، فأنجبَت ولد وهي على فراش ( زَمْعَة ) يعني وهي تحت عِصمة ( زَمْعَة ) لأنها كانت مِلْك يمين ( زَمْعَة ) ، وبقِيَ هذا الولد في بيت ( زَمْعَة ) ،، وبعد ظهور الإسلام أراد الصّحابي ( سعد بن أبي وقَّاص ) أن يأخذ هذا الولد باعتبار أنه ابن أخيه ( عُتْبَة بن أبِي وقَّاص ) لأن ( عُتْبَة ) كان قد أَوْصَى أخاه ( سعد ) بذلك ،، لكن ( زَمْعَة ) كان عنده ابن اسمه ( عَبْدْ ) ، و ( عَبْدْ ) رفَض أن يتنازل عن الولد وقال ( هو أخي ومولود على فراش أبي ) ،، والنبي حَكَم في هذه القضية بأن الولد هو من حق ( عَبْد ) وقال ( الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ) يعني من حق صاحب العِصمة الشرعي وهو ( زَمْعَة ) ،، وأيضاً قال النبي ( ولِلْعَاهِرِ الحَجَرُ ) يعني الزانِي يأخذ الحجر ، وهذا المصطلح هو كِناية بأن الزاني ليس من حقه شيء ،، كما نقول نحن ( يَشرَب من البحر ) أو ( يخبط دماغه في الحيط ) .
ولكن النبي في نفس الوقت رأَى أن الولد فعلاً يُشبه الزاني ولا يُشبه ( زَمْعَة ) ،، لذلك أمَر النبي ( سَوْدَة ) بأن تَحتجِب من الولد لأن أغلب الظن أنه ليس أخاها في الحقيقة .
– يعني النبي أخذ بالأَحوَط وأمَر ( سَوْدة ) بالإحتجاب عن الولد لِمُجرّد أنه ظن أن الولد هو ابن الزاني وليس أخاها .
– معنى ذلك أن النبي أصدَر حُكْمين اثنين ، وطَبَّقهما في نفس الوقت :
1- الحُكم الأول : هو أن الولد يُعتبَر أخ لـ ( سَوْدَة ) من الناحية الظاهرية ، يعني من ناحية نَسب الإسم والأوراق والعُقود والميراث ، يعني يجب أن نكتب الولد بإسم صاحب الفراش الشرعي .
2- الحُكم الثاني : هو أن الولد لا يُعتبَر أخ لـ ( سَوْدَة ) من ناحية حُرمة النَّسَب ،، لذلك لا يَصِح أن تَنكشف أمامه ويرَى شَعرها ، فهو ليس من مَحارمها ، بل هو أجنبي عنها .
وهذا يعني أن ذلك الولد هو ابن للزاني من ناحية حُرمة النَّسَب فقط ، لكن ليس ابنه من ناحية نَسب الإسم والوَرق والعُقود والميراث .
* لو أنجَب الأب بنت مِن الزّنا ، فإن الإمام الشافعي يَنفِي أنها بنته من ناحية نَسب الإسم والأوراق والعُقود والميراث ،، ولذلك يجُوز له أن يتزوجها ،، لكن الشافعي لا يَنفِي أنها بنته من ناحية حُرمة النَّسب ،، ولذلك لم يقل الشافعي أن من حقه أن يُعاشرها معاشرة الأزواج .
والدليل على ذلك هو كلام الشافعي نفسه ،، حيث وَرَد في كتاب ( الحاوِي في فقه الشافعي ) أن الشافعي قال ( وَأَكْرَهُ لَهُ فِي الْوَرَعِ أَنْ يَنْكِحَ بَنَاتِ الَّذِي وَلَدَهُ مِنْ زِنًا ، فَإِنْ نَكَحَ لَمْ أَفْسَخْهُ ؛ لِأَنَّهُ ابْنُهُ فِي حُكْمِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،، قَضَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ لِزَمْعَةَ وَأَمَرَ سَوْدَةَ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ ؛ لَمَّا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ ، فَلَمْ يَرَهَا وَقَدْ حَكَمَ أَنَّهُ أَخُوهَا لِأَنَّ تَرْكَ رُؤْيَتِهَا مُبَاحٌ وَإِنْ كَانَ أَخَاهَا ) وكلام الشافعي يدل على شيئين :
1- أن الشافعي لا يَفسخ عَقْد زواج الأب الذي يتزوج بنته من الزّنا ، لكن مع ذلك فهو يَكره كتابة العقد ،، يعني برغم أنه يسمح بالزواج على الورق إلا أنه يكره ذلك .
2- أنه لو حدَث زواج على الورق ، فإن الشافعي لا يسمح بمعاشرة الأب لابنته من الزنا بدليل أنه بَنَى فتواه على حديث ( سَوْدَة بنت زَمْعَةَ ) ، وهذا يعني أنه ملتزم بالمبدأ الموجود في الحديث ،، يعني يُفَرّق في الحُكم بين الزواج على الورق وبين معاشرة الأزواج .
* وهذا الحديث قاله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما حدث نِزاع على الأب الحقيقي للولد ، لأن حُدوث النزاع يدل على غياب دليل مُتَيقَّن ، وبالتالي يتم الأخذ بالأصل وهو إلحاق الولد لصاحب الفراش الشرعي ، يعني نكتب الولد في الأوراق والعقود بإسم صاحب الفراش الشرعي وليس بإسم الزاني ،، ولكن عند وجود دليل مُتيقَّن على أن الأب الحقيقي هو الزاني فإن هناك قوْلان :
1 – القول الأول يرى إلحاق الولد من حيث نَسب الإسم وحُرمة النَّسب بالأم ، مع حِرمان الزاني مِن نَسب الإسم ، وفي نفس الوقت يتم الحفاظ على حُرمة النَّسب مع الزاني ، يعني مثلاً لا يصح أن يتزوج هذا الولد ببنت الزاني لأنها أخته من الأب .
وفى هذه الحالة يتم إعطاء الولد اسم ثلاثي لا يَتشابه مع اسم الزاني ،، وهذا قول جمهور الفقهاء .
2- أَمّا القول الثاني فيَرى إلحاق الولد بالزاني مِن حيث نَسب الإسم وحُرمة النَّسب معاً ، وهذا قول بعض العلماء ، منهم الحسَن البَصري ( رواه عنه إسحاق بن راهويه )، وقول محمد بن سيرين ، وقول أبي حنيفة ( رواه عنه علِيّ بن عاصم ) .
وفي كِلا القولين لا يتم إلحاق الولد بصاحب الفراش طالما ظهر دليل مُتيَّقن على أن الولد هو من صُلب الزاني ، وأيضاً يتم الحفاظ على حُرمة النَّسب مع الزّاني في كِلا القولين .
* وإذا ثَبت زِنا الزوجة أو الجارية في نفس الأيام التي كان الزوج فيها يَرتاد فراش الزوجية غير مسافر ، ثم حدَث حَمْل للزوجة ، فهناك احتمالان :
– إِمّا أن يكون الولد مِن صُلب الزوج أو يكون مِن صُلب الزّاني ،، فإذا قالت الزوجة أن الولد هو من صُلب الزاني ، فنحن لا نَضمن أنها صادقة ، فربما يكون من صلب زانٍ آخَر ، والتي تَرضى أن تَزنِي مع شخص فليس غريباً أن تَزنِي مع غيره ، وربما يكون الولد من صُلب الزوج وتُريد الزوجة أن تَحرمه مِن ولده كُرهاً للزوج بدليل أنها خانته وقامت بالزّنا ، وربما تكُون هي نفسها لا تعرف الولد من صُلب أيّ شخص بالضبط طالما عاشرَتهم في أوقات متقاربة ،، وهنا لا يَصِح أن نعتمد على الشبَه في شكل المولود في مسألة يَنتُج عنها حُكْم خطير ، فقد يَظن البعض وجود شَبَه ، ويظن أخَرون عدم وجود شبَه ، يعني هذا شئ نِسبِي وليس قَطعِيّ الثُّبوت ، لكن الشّبَه يُفيد في الترجيح والظن ، ولا نَستخدمه في إصدار الحُكم النهائي ، يعني الزاني له عِقاب الزنا لكن لا ننسب له ولداً قد يكون من صُلب شخص أخَر .
لذلك في هذه الحالة يَنتسب الولد بشكل تلقائي لصاحب الفراش الشرعي وهو الزوج ، طالما لا يوجد دليل نهائي على الأب الحقيقي ، وإذا شعَر الزوج أن هذا الولد ليس من صُلبه ، فمن حقه أن يتبرأ مِنْه عن طريق ( اللِّعان ) .
– أَمّا إذا حملَت الزوجة في الفترة التي كان الزوج فيها غائباً عن الناس ، فلا نجزم أنها زنَت طالما لم يرَها أَحَد وهي تزني ، فربما كان الزوج غائباً عن الناس ولكن ليس غائباً عن الزوجة ، يعني مثلاً كان مُقيماً في البيت غير مسافر ، أو سافَر وأثناء سفَره جاء الزوج وزار زوجته بدون أن يَلْحظه أَحد ، وأحياناً يمُر الإنسان بظروف شخصية ولا يُريد أن يَطّلع على حاله وأسراره أَحد ، وخصوصاً أقاربه ، يعني في هذه الحالة لا أَحد يعرف الحقيقة إلا الزوج ، ولذلك يَحق للزوج فقط أن يَتهم زوجته بالزنا ويَتبرأ من الولد ، إذا حدَث الحَمْل وهو غائب عنها فعلاً .
– معنى ذلك أن الإسلام لا يَعتمد على الظن والإحتمال في إصدار حُكم نهائي في المسائل الخطيرة ، لأن القاعدة الفقهية تقول أن اليقين لا يزول بِالشّكّ ،، وهذا يدل على أن الإسلام تَوقّع ظهور أدلة يَقينية في المستقبل تُثبت نَسب المولود مثل تحليل الوراثة ، وطالما تَوفّرَت هذه الأدلة فيُمكن الأخذ بها في إثبات النَّسب .
– وذات مرة أصدر النبي تعليمات للصحابة وقال لهم ( لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلَّا في بَنِي قُرَيْظَةَ ) ، فاختلَف الصحابة في فهم تعليمات النبي ، وذهبوا للنبي لِيُوَضّح لهم مَن على صواب ومَن على خطأ ، فأخبرَهم النبي أنهم جميعاً على صواب طالما اختلَفوا في الوسيلة ولم يَختلفوا في الهدف ، لأن الوسائل تتغير حسب الظروف ، والإسلام يعمل حساب جميع الظروف ، لذلك سمح لهم بالإجتهاد لِكَي يُصدروا فتاوى تُناسب جميع الظروف ، يعني الإسلام هو الذي أمَر الفقهاء أن يُصدروا فتاوى مختلفة ولكن في حدود الدين .
ولاحِظ أن الإسلام سمح بالأخذ برأْي الأقلية مِن العلماء في حالات الضرورة طالما كانوا مِن العلماء المَوْثوقين .
واعلَم أن السبب الرئيسي لإقامة الحَدّ ليس هو الزنا في حد ذاته ، بل الجرأة في الفاحشة لدرجة أن الزاني لم يَستتر مِن الناس بدليل أنهم رأَوه وشهِدوا عليه ، أَمّا الزنا في حد ذاته فعقوبته أكبر مِن الحَدّ ، لأن عقوبته هي نار جهنم في الأخرة ، إلا إذا تاب الزانى توبة نصوحة .
وانظر أيضاً [ مفهوم خاطيء بخصوص تطبيق الحدود وتطبيق الشريعة ]
* ( ملحوظة : قد يتم كتابة كلام إضافي إلى المقالة قريباً لزيادة الشرح أكثر )